في "قلب الدار"

في "قلب الدار"

بصوت مرتفع يعبر طاهٍ سعودي عن أفكاره، يروي حكايات عن الطعام وفن الطهو اللذين يشكلان جزءًا لا يتجزأ من الانتماء إلى الوطن، من الهوية الموحدة
25 سبتمبر 23
Nostalgic Saudi Cuisine
Share

قد نقوم بتعريف الوطن، كلٌّ حسب رؤيته الخاصة له، لكننا نتفق حتماً على أنه يعني الشعور بالهوية والانتماء. بل يمكن القول إنه تلك المساحة "حيث يكون القلب". ولأننا كائنات اجتماعية، فإننا نميل غريزياً إلى عيش ذلك الشعور، ونهرب من العزلة التي تدفعنا إلى الإحساس بعدم الارتياح وربما بالكآبة. أليس هذا ما اختبرناه خلال انتشار جائحة كوفيد-19؟ وفيما تحولت تلك الأيام الموحشة إلى جزء من ذاكرتنا، ما زلنا نحتفظ ببعض الدروس الحياتية المفيدة. لقد اكتشفنا، في الواقع، أن قواسم مشتركة عدة تجمع سكان العالم، وأدركنا أنه يمكننا الاستفادة من لحظات قصيرة وأحداث بسيطة لعيش فرح الحياة،  وهكذا صنعنا من المر حلواً. ولأنني طاه، لا أجد بداً من الاعتراف بأن قليلاً من المرارة قد يجعل مذاق بعض الأطباق أكثر حلاوة.    

مشاركة، اهتمام، تواصل 

تحرص المملكة العربية السعودية على إظهار هويتها الثقافية بطرق مختلفة، منها الإبداعات التي يتم تقديمها في عالم الطهو. ورغم أن هذه القفزة الثقافية تفرض تحدياً صعباً على بعض من يشكلون جزءًا من المشهد السعودي، فقد تمكن كثير من الخبراء، الفنانين والحرفيين السعوديين الشباب من مواجهة هذا التحدي بطرق أثارت إعجاب العالم. لذا، نظر هؤلاء إلى الماضي الملهم بعيون الحاضر وعزموا على بناء ثقافة مستدامة وحيوية تعد بمستقبل مزدهر.   

وفي سياق ثقافتنا، نفخر، نحن السعوديين، بحسن الضيافة لدينا كما بارتباطنا العميق بعقيدتنا الإسلامية التي تركز على الدعوة إلى احترام كبار السن، وتشدد على أهمية تعزيز الشعور المجتمعي الذي يرتبط بحس المشاركة مع العائلة، الجيران والزوار. وفي هذا الإطار، لا بد من ذكر فن تحضير الطعام الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من هذا الواقع. 

وحين أعود بالذاكرة إلى زمن طفولتي، يباغتني ذلك المشهد الذي يطغى على كل المشاهد الأخرى: جدتي تعمل في المطبخ. ما زال بإمكاني بالفعل أن أستشعر ذلك الحب الذي كانت تظهره وهي تحضر المعجنات على تلك الطاولة القديمة التي يصدر عنها صوت الصرير. كنت أشعر بالدفء كلما تناولت معجناتها المحشوة بالجبنة والزعتر. فقد كان طعامها عنصراً مادياً يمثل العاطفة التي تجمعنا. لذا لا عجب في أن يقول الناس إن "المطبخ هو قلب كل دار". وبالنسبة إليّ أرى فيه دائماً ذلك المكان حيث ألتقي قلب جدتي،  المكان المليء بالحب والذي يوفر الغذاء لروحي أيضاً. في الحقيقة، أنا مدين بالكثير لها، لتأثيرها على مسيرتي كطاه. وبالطبع، لن أتخلى عن هذا التأثير يوماً.  

إذاً لا أتردد في القول إن المطبخ مكان مميز لأنه قلب المنزل، فهو المساحة التي تتيح لنا تشارك وجباتنا، مشروباتنا، وتبادل الأحاديث مع أشخاص نحبهم. إنه مكان دافئ حيث تُصنع الذكريات وتُروى الحكايات. ولا بد لي من التذكير بأن ما يؤمنه تناول الطعام من تواصل بين الأجيال، وما يتيحه من لقاءات حول المائدة، يشكل أحد أعمدة ثقافة المملكة العربية السعودية، بل المنطقة بأسرها.  

وبالحديث عن الموائد العائلية، أتذكر أنني جلست إلى جانب ابنة عمي مها خلال جلسة طعام عائلية أقيمت مؤخراً. وروت الأخيرة بعض ذكريات طفولتها حيث كانت تعود من المدرسة وتتناول الغداء برفقة جدتنا. وقالت: "لم أكن أحب البامية، ولم يكن شكل الحبات يعجبني. في الواقع، كنت أصاب بالقشعريرة حين أنظر إليها"، مضيفة: "ما زلت حتى الآن أستعيد أصوات تلك المرحلة وروائحها. إنها المكان حيث أخفي الذكريات التي جمعتنا". 

 ورغم أنها لم تحب طبق البامية، إلا أنها تعده حالياً لأطفالها باستخدام المقلاة الهوائية، بل أصبح من الأطباق المفضلة لديها. وهو ما أوضحته بالقول: "أضيف تعديلات صحية إلى الطبق". 

 ليس هذا مستغرباً لأن الأطباق البسيطة قد تنطوي على معاني كثيرة، بل على مشاعر وانفعالات، وهو ما يجعل بعض الأشخاص يستمتعون بتناول أطباق كانوا يرفضونها في أيام طفولتهم. 

لا للصور النمطية 

يكمن سر الضيافة السعودية في ثقافة شعبها وكرمه. ففي المملكة يتم التعامل مع الزائرين بلطف بالغ، وليس مستغرباً أن تتم دعوتهم إلى الجلوس إلى المائدة أو المشاركة في اللقاءات الاجتماعية أو إلى تناول كوب من القهوة التقليدية، في أجواء الدفء التي تُشتهر بها البلاد. 

وتشكل الأطباق التي يتم تحضيرها هنا دعوة لاستكشاف المناطق المختلفة، بل إنها تروي القصص عن تاريخها الغني. ورغم أن شبه الجزيرة شكلت جزءًا من طريق التجارة وطريق الحرير عبر العصور، إلا أن سكانها حرصوا دائماً على الاستفادة من خيرات الأرض والبحر والسماء. لذا، يمكن القول إن هذه الحقيقة لا تتفق والصورة النمطية التي تُظهر العرب وهم يجلسون على الرياش الفاخر ويتناولون فاكهة نادرة. فقد كان أجدادنا يربون الماشية فيما كانوا يتناولون اللحوم في مناسبات خاصة. 

قد يبدو مشهد المطبخ السعودي أحادي اللون والبعد، لكن الحقيقة تختبئ خلف تلك الواجهة التي تحجب تنوعه وما يعكسه من عادات محلية. ويمكن اكتشافها من خلال لقاء السكان المحليين والتحدث إليهم، وهكذا يمكن معرفة الكثير عن اللهجات، العادات، الأعراف، بل أيضاً النكهات الموسمية المفضلة التي تلبي كل الأذواق. في الواقع، ثمة كنز دفين خلف الستار. 

ولا شكّ في أن بعضنا سيشير إلى أن مكونات الأطباق باتت تتوفر راهناً في كل المواسم. لكن لا بد من التذكير بأن الطهو على الطريقة المنزلية ما زال يلتزم بالمواسم. ففي فصل الصيف مثلاً تحتل الأطباق التي تحتوي على ثمار البحر والمحاصيل الزراعية واجهة المشهد، فيما تشكل اللحوم الدسمة والأطباق المصنوعة من مكونات يتم حفظها بطرق تقليدية جزءًا لا يتجزأ من مائدة الشتاء. 

ورغم هذا لا نجد في المنازل السعودية مكونات الوجبات التقليدية فقط، ففي أثناء تحضير وجبة الصباح قد يتم استبدال السمن الهندي، الخبز المصنوع من القمح، العسل، والبقوليات بالزبدة النباتية، الأطباق الفاخرة، حبوب الفطور، أو بأكواب الأساي. وقد تلتقي كل هذه المكونات على مائدة واحدة لتشكل مزيجاً من نكهات يمكن الاستمتاع بها مع الشعور بشيء من الحنين. 

في الجنوب مثلاً، يتم تناول الخبز مع السمنة، وهي زبدة غنية تحتوي على الجوز وتغطى بالعسل المحلي. وتكشف السمنة، كما هي حال مكونات أخرى، كيف كان أجدادنا يعتمدون على خيرات الطبيعة، بل إنها تشكل جزءًا من مسيرتنا التي شهدت تطوراً لا مثيل له. ويستمر العرض لنتعرف على أطباق تنتمي إلى ثقافات أخرى، أطباق نضيف إليها رشة من توابلنا. وهكذا نتناول مثلاً القلابة والفول مع خبز التندور الهش الذي يرتبط بمطبخ بلدان جنوب ووسط آسيا. 

 نداء الشمال 

يشهد عالم الطهو تحولاً كبيراً، فقد بات البحث عن مكونات محلية وموسمية اتجاهاً يحرص كثر على اتباعه. إلا أن هذا التوجه ليس مستجداً، فما بات يعرف اليوم باسم حركة الطعام البطيء كان رائجاً في الغرب في سبعينيات القرن المنصرم مع نشطاء وطهاة منهم كارلو بتريني وأليس ووترز. لكن لا بد من الإشارة إلى أن البدو الرحل وأبناء القبائل عندنا اعتمدوا هذا المفهوم على مر العصور.  

واليوم يمكن زوار الشمال السعودي تذوق خيرات المناطق ذات التضاريس الوعرة. فهنا تعتمد الأطباق بالدرجة الأولى على الدهون الحيوانية ومنتجات الألبان التي تضاف إلى حبوب يتم إحضارها من الهلال الخصيب ومناطق زراعية أخرى. وتضاف إلى هذا مجموعة متنوعة من مكونات النباتات البرية، ومنها بذور نبات السمح التي يتم تحميصها وطحنها لتتحول إلى دقيق غني بالعناصر الغذائية. ويتم استخدام هذا الدقيق عادة لصنع أقراص تُخبز على النار مباشرة. وفي أثناء عملية الخبز تفوح تلك الرائحة الرائعة التي تأسر القلب والحواس. إذاً لا بد من أن نوجه لك الدعوة لقضاء أوقات لا تضاهى في المناطق الشمالية وللاستمتاع بمذاق الكمأ الصحراوي اللذيذ أو كما يسمى محلياً "الفقع". وتذكر أن الفرصة متاحة خلال موسم قصير جداً.   

نكهات الجنوب

تقدم لك المنطقة الجنوبية تجربة استثنائية لا بد لك من دعوة آخرين إلى اختبارها. فهي تتميز بكل ما يجذب عشاق الطبيعة ويستحق المشاهدة، من المساحات الخضراء، إلى المناخ المعتدل، فمصادر المياه والجبال وغيرها. ويعكس مطبخ المنطقة جمال مشاهدها، وتحديداً من خلال الفاكهة والخضار الموسمية التي تشكل عنصراً حيوياً على مائدة المنطقة. ولا عجب في هذا، فأهل الجنوب يفخرون ببراعتهم في مجال الزراعة، بإنتاج القهوة لديهم، كما يحتفون بمحاصيلهم الموسمية من خلال مهرجانات سنوية. ولا بد من الإشارة إلى أن المنطقة تعتبر من الوجهات السياحية المهمة في المملكة، إذ تتميز بتراثها الغني، مناظرها الطبيعية الرائعة، وكرم سكانها. 

وقد سرّني التعرف على تقاليد الطعام في هذه المنطقة حين قمت برحلة عمل إليها. فهي تقدم مزيجاً من التوابل وتقنيات الطهو، وتتقاسم واليمن المجاور بعض أوجه الشبه. وهنا استمتعت بتناول المرقوق، وأعني بهذا الطبق اللذيذ الذي يحتوي على لحم الضأن والخضار، علماً أن الوصفة المفضلة لدي هي تلك التي تحتوي على الخضار وقطع العجين والتي يتم تحضيرها على نار هادئة لأن هذا يضمن امتصاص المكونات للروائح ونكهات التوابل. وقد ذكرني هذا برحلة قمت بها إلى جنوب الولايات المتحدة الأميركية حيث فوجئت بأنه يتم تحضير طبق مماثل.

أفضل ما في الشرق 

حين نتحدث عن المنطقة الشرقية، نقصد واحة الأحساء حيث تنمو أشجار النخيل وصحراء الربع الخالي الشاسعة ومسقط رأسي. ولأنني نشأت هنا، يمكنني أن أشهد على لطف أهل المنطقة وتميزهم. فهم لا يوصدون أبوابهم، كما أن العائلات لا تتردد في استقبال الضيوف لقضاء بعض الوقت أو ربما لتناول الطعام برفقة أفرادها. 

وليس غريباً أن نشير إلى أن مطبخ هذه المنطقة يقدم وصفات تحتوي على التمر. نذكر مثلاً بعض الأطباق التقليدية، وصفات المعجنات المحشوة بالتمر، خبز التمر الحساوي، دبس التمر، خردل التمر، وموكتيل التمر الفوار الذي يقدم في المقاهي والمطاعم الحديثة. 

الطريق إلى الغرب 

تحفل منطقة البحر الأحمر، التي تشكل جزءًا من الغرب السعودي، بعادات وثقافات تشكلت بفعل تأثير ملايين الحجاج. فقد أدت مكة تحديداً دوراً محورياً في تاريخ الشرق الأوسط والتاريخ الإسلامي، إذ تمتعت بموقع مهم وشكلت معبراً سلكته قوافل الحج والتجارة عبر القرون. وما زالت بقايا هذا التاريخ الغني تشهد على روعته في كل زاوية من زوايا المنطقة. 

وفي غرب المملكة تجمع الوجبات التقليدية، التي يتم تحضيرها بطرق منزلية، النكهات البدوية، المشرقية، الهندية، الجاوية، إلى جانب نكهات آسيا الوسطى وتلك الأفريقية، بل إنها تترجم روعة المواقع التاريخية كثيرة العدد والقديمة جداً. وتشمل الأطباق اللذيذة مجموعة من الأسماء مثل المانتو، اليغمش، السامبال (الصلصة الماليزية) والأمبا (مخلل المانغا الخضراء) التي يمكن أن ترضي حتى الأذواق الأكثر تميزاً. وبالطبع ليس علينا أن ننسى الأطباق الحلوة وهي كثيرة وقد لا تتسع لها صفحاتنا. لذا قد نقوم برحلة أخرى لنتذوق كل أنواعها. 

ولن أنسى أن أوجه نصيحة مفيدة لكل من يخطط لزيارة هذه المنطقة. فلا بد من تخصيص وقت كافٍ لاستكشاف عجائبها التاريخية وللقاء السكان المحليين الودودين وللاستمتاع بطرق الترحيب الرائعة. الأمر يستحق العناء فعلاً.    

عين على الرياض 

تقترب جولتنا من نهايتها، لكن قبل هذا أدعوك إلى زيارة الرياض، المدينة التي تشهد على التحول الكبير. فقد أصبحت مع مرور السنوات نقطة جذب للحشود، وقلباً نابضاً بالحياة، وموطناً للاحتفالات وعنواناً لبدايات جديدة. 

هنا يمكنك اكتشاف كثير من المطاعم التقليدية التي تقدم المثلوثة، أطباق الأرز المحلية، فضلاً عن القرصان أو الطبق الذي يحتوي على طبقات رقيقة من خبز القمح، صلصة الطماطم، الخضار، ولحم الضأن. كذلك لا بد لك من تجربة الجريش الذي يحتوي على القمح المجروش ومكونات محلية أخرى. 

وتحتضن الرياض أيضاً مطاعم رائدة تقدم تجارب طعام عالمية راقية. كما أنها تعتبر موطناً للمواقع الفاخرة ولبعض الوجهات المناسبة لعشاق السفر غير العادي، ومنها بوابة الدرعية والقدية.   

إذاً يسير المطبخ السعودي على خط التطور السريع، على إيقاع الشغف الذي يبديه الطهاة والذواقة في أنحاء المملكة كافة.