علي الكلثمي ومدينة التغيير

علي الكلثمي ومدينة التغيير

هو ليس مجرد فيلم، بل محطة زمنية في حياة مدينة تشهد، أمام عيني مخرجه، التحوّل الكبير
18 أكتوبر 23
Director Ali Kalthami: Mandoob
Share

التغيير، أمر غريب وجميل، وكثيراً ما أثار اهتمام المخرج السعودي علي الكلثمي. فقد نشأ الأخير في الرياض حيث شارك لاحقاً في تأسيس شركة الإنتاج تلفاز 11 وساهم في تشكيل المشهد الثقافي في بلده. إلا أنه كان يشعر بعدم الرضا بسبب بعض القيود التي فرضتها المدينة . فخلال معظم سنواته، كان المخرج الشهير، 40 عاماً، يمضي الوقت كل مساء متجولاً بلا هدف، برفقة أصدقائه، في انتظار التحول الكبير الآتي.

وفي العام 2023، أصبح حلمه واقعاً. فبعد عقود من التطوير، باتت الرياض تقف على مشارف تحولها إلى مدينة عالمية فعلاً، وبات أبناؤها يسعون إلى إظهار طاقاتهم، فيما الثقافة تتجه نحو الازدهار،  والأعمال في مختلف القطاعات تتقدم بسرعة كبيرة، والزوار والوافدون الجدد، يتدفقون من كل أنحاء العالم من أجل الاستفادة من الفرص الكثيرة المتاحة.

ويعلّق الكلثمي على هذا التغيير الكبير مبتسماً فيقول: "اعتدت التفكير بمدن مثل طوكيو، نيويورك ولندن كلما تحدث أحدهم عن التغيير، لكن هذا الواقع تغيّر الآن، فحين عُرض فيلمنا "مندوب الليل" خلال الدورة الـ48 لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي، كانت الرياض حديث الناس في كل مكان".

ويبدو أن لهذا التغيير وجهاً آخر يتحدث عنه الكلثمي. فمع حدوث التحوّل ومقابل المكاسب الكثيرة، كان لا بد من عيش بعض الخسارة. فالآن لا وجود للرياض التي نشأ فيها.

وهو ما يشير إليه بقوله: "تتغير مدينتي بسرعة كبيرة، وأنا سعيد جداً بفعل التقدم الكبير الذي حققته في مدة زمنية قصيرة. لكنني أشعر أحياناً بالضياع بين المراحل. كأنني ضائع بين لغتين. فأنا أسير في الشوارع، ألقي نظرة على محيطي، وللوهلة الأولى لا أعرف المكان".

ولبعض الوقت، خلال محادثتنا، يحدق الكلثمي في مكان بعيد ما، وينسحب من الواقع متوجهاً نحو الذكريات، فيسترجع صور الناس الذين اعتاد مشاهدتهم عبر نافذة سيارته في ليالي الخميس الطويلة. كان يؤلف في مخيلته سيرة حياتهم، ما شكل مصدر إلهام لقصص أراد كتابتها. كما يستعيد تلك المساحات الثقافية المؤقتة التي أراد بناءها مع أصدقائه والتي لا يجد أثراً لها الآن. ويتحدث عن يوم افتتاحه وشركائه المكاتب الرسمية لتلفاز 11، وعن الشهرة التي استطاعوا تحقيقها بعدما نشروا، عبر يوتيوب، مقاطع رأى الناس فيها مقتطفات من حياتهم. فقد بات هؤلاء ينادونهم بأسمائهم في الشوارع. إلا أن المخرج سرعان ما يعود إلى الواقع، متخطياً شعوراً بالحزن يثيره بعض تلك الذكريات.

ورغم هذا الشعور يقول: "على أية حال، ما حدث هنا أمر رائع. لكنني أرى أحياناً أنه ليس على المدينة أن تنسى سكانها. هل تعرف ما يعنيه هذا؟ ليس على المدينة أن تنسى سكانها الذين صنعوا ما هي عليه اليوم".

ربما هذا ما دفعه إلى إنتاج "مندوب الليل"، فيلمه الروائي الأول. ويتناول العمل قصة فهد القضعاني، الرجل الذي يجد نفسه غير قادر على الاعتناء بوالده المريض بعد خسارة وظيفته. وإذ يبدأ العمل ساعياً ليلياً، يجد أن هذا لا يمكّنه من تغطية فاتورة والده الطبية، الأمر الذي يدفعه إلى سرقة البضائع من بعض المهربين لإعادة بيعها، ما يثير شكوك السلطات المحلية.  

وبين عشية وضحاها، يجد فهد نفسه في الرياض التي لا يعرفها، المدينة حيث يبحث عن عملاء يشترون بضائعه المهربة. وهكذا يدخل إلى النوادي السرية، يحضر الحفلات، ويكتشف خفايا الحياة الخاصة لأشخاص لم يكن يقابلهم من قبل. 

ويثني الكلثمي على قدرة السينما على كشف بعض الحقائق بالقول: "هذا ما أحبه في عالم السينما. فإذا أردت أن تعرف مثلاً ما كانت عليه نيويورك في الخمسينيات، الستينيات أو السبعينيات، أزمنة التحوّل الكبير، ليس عليك سوى أن تشاهد بعض الأفلام. ولا أقصد الأفلام الوثائقية، بل السردية التي تنقل إليك جوهر المكان وثقافته".

ويضيف: "لقد تغيرت مدينتي، وأردت توثيق الحياة التي تعيشها الآن، قبل أن نفقد بعض أجزائها إلى الأبد. وفي هذا السياق، يعود كثير من زملائي إلى الماضي ويصنعون أعمالاً تاريخية أو يلقون نظرة على المستقبل البعيد. أما أنا فأبحث عن طريقة لالتقاط جوهر اللحظة الراهنة، من خلال شخصية تشهد على تغييرات كبيرة لا تتمكن من فهمها بشكل تام".

ويشار إلى أن المخرج السعودي تمكن، أثناء صناعة عمله هذا، من اكتشاف وجه آخر للرياض لم يعرفه من قبل. وهو يوضح هذا بقوله: "اتبعت، في أثناء التصوير، قاعدة تقضي بأن تعكس كل لقطة، كل موقع، رحلة فهد العاطفية. لذا، كنت أستكشف الأماكن بلا توقف برفقة فريق كبير، فقد سعينا إلى العثور على مواقع تعكس المشاعر التي أردنا التعبير عنها".

ويتابع: "أدى بنا هذا، حرفياً، إلى اكتشاف طرق لم نسلكها من قبل. فجأة وجدتني أقوم بدراسة المباني وألاحظ المراحل الزمنية التي واكبت بناء كل حيّ. ففي سبعينيات القرن العشرين، حضرت الشركات الكورية وصممت معظم الشوارع الرائعة. ومنذ أكثر من 100 عام، بُنيت تلك القصور ذات التفاصيل المعمارية الكثيرة".

بالطبع، لم تكن كل الأماكن مفتوحة للتصوير، علماً أن "مندوب الليل" هو الفيلم الأول الذي يوثق جزءًا من حياة الرياض على أرض الواقع. لذا، فهو لم يفتح آفاقاً مفاهيمية جديدة فحسب، بل استطاع تسليط الضوء على حدود مجتمع المدينة ومحظوراته أيضاً. ونتيجة لذلك، لم يتمكن المخرج وفريقه من تصوير بعض المشاهد في بعض الأماكن، ومنها مثلاً  مشهد القصر الفخم حيث تعيّن على فهد أن يقوم بتسليم البضاعة.

وعلى هذا يعلق الكلثمي فيقول: "بصراحة، شعرنا بكثير من التفاؤل. أردنا تصوير العديد من القصور الرائعة. لكن لم يكن هذا ممكناً. فقد كان كل من تلك القصور ملكاً لشخص ما! وبالطبع، لم يرد هؤلاء أن نظهر أن جريمة من نوع ما حدثت في حيهم... لذا، رحنا نستكشف الشقق، واكتشفنا هذا الدوبلكس المذهل الذي أصبح أحد مواقع الفيلم المميزة جداً".

وبحسب الكلثمي، فإن فيلم "مندوب الليل" هو جزء من الزمن،  وهو يأمل أن يتمكن سكان الرياض، بعد 50 عاماً من الآن، من مشاهدته ليروا ما كانت عليه الرياض قبل ولادة المدينة الجديدة. على أية حال، لا تسعى صناعة السينما إلى إحباط التغيير، بل تهدف إلى إظهار قوة الأشخاص الذين ساهموا في دفع عجلات هذه المدينة المذهلة إلى الأمام، فهذا يتيح لأبناء المستقبل تقدير ما وصلوا إليه فعلاً. ومع حصول هذا الفيلم على ثناء الخبراء في عالم السينما في كل أنحاء العالم، يبدو أن الكلثمي والرياض لا يعيشان سوى بداية مرحلة التغيير.  

@kalthami
@mandoobfilm