الهايكنغ خطىً تكشف خفايا الطبيعة وأسرار الحياة

الهايكنغ خطىً تكشف خفايا الطبيعة وأسرار الحياة

أصبح "الهايكنغ" من النشاطات الترفيهية المنظمة التي يُقبل عليها كثيرون. لكنه لا يعني المشي لمسافات طويلة فقط، بل هو رحلة تكشف الكثير من أسرار الطبيعة والحياة أيضاً
13 يونيو 23
Share

أصبح العالم بين يديك، هذا ما يشيعه رُعاة الفضاء الإلكتروني ودُعاة التنقل من وجهة إلى أخرى "بكبسة زر". بالفعل، مع انتشار وسائل التواصل الأكثر تقدماً، تحول العالم إلى قرية صغيرة، وبات بإمكاننا اختصار المسافات والتحدث وجهاً لوجه إلى من تُبعدهم عنّا مئات آلاف الأميال ولكن... ثمّة نقص يشوب هذا المشهد التكنولوجي الآخذ في التمدّد، فنحن نقف على حافة إعلان نهاية العلاقات الاجتماعية المباشرة، بل على مشارف بدء عصر من الخمول البدني. وهذا ما تنبّه إليه بعض الخبراء، ومنهم ناشطون اجتماعيون ومدربون رياضيون. ورأى هؤلاء أنه لا بدّ من العودة إلى الأصول، إلى الطبيعة، من أجل التخلص من ذلك التوتر الذي يفرضه الضجيج اليومي، ومن أجل تصحيح العلاقة مع الذات ومع الآخرين. لذا، انطلقت مجموعات الهايكنغ من كل حدب وصوب، ما أعاد إلى السياحة الداخلية زخمها وحضورها. إذاً فلنبدأ رحلتنا مع بعض الخبراء والناشطين في عالم المشي لمسافات طويلة.

قصة الهايكنغ

نستخدم دائماً مصطلح "الهايكنغ" حتى بات جزءًا من لغتنا اليومية. وتعني الكلمة في الحقيقة السير في المناطق الطبيعية لمسافات طويلة تراوح بين 5 أميال و6 كيلومترات. ويمكن القيام بهذا النوع من الرحلات بشكل فردي أو ضمن مجموعة، من أجل الترفيه وتعزيز الطاقة الإبجابية أو ربّما التدرّب.

وقد تكون رحلة الهايكنغ سهلة أو متوسطة الصعوبة أو صعبة. وخلالها يتم السير، لعدة ساعات، برفقة مرشد ومدرّب أو أكثر، في السهول أو الغابات أو على الطرق الوعرة أو صعوداً نحو قمم التلال أو الجبال، على الثلج أو في الصحراء... ولا يخلو الأمر من بعض المغامرة، لذا لا بدّ من إجراء الاستعدادات اللوجستية والبدنية للقيام بهذه التجربة التي يمكن وصفها دائماً بأنها رائعة ولا تُنسى. 

تصوير مجد الجيجاوي

رحلتي

منذ التحقت بمجموعة "الهايكنغ" Fitness n’ more، بدأت أشعر بأن العالم ليس قرية صغيرة. فهو يحتضن الكثير الكثير من التفاصيل الجميلة التي لا يمكن التنبّه إليها إلا بعد الغوص في عمق اللوحة، لوحة الطبيعة التي تبدأ من تراب يحتضن الخطوات ولا تنتهي بأندر أنواع الزهور والحشرات. والهايكنغ ليس مجرّد رحلة يتم القيام بها سيراً على الأقدام، بل هو انقلاب على الذات، عتق للروح، إعادة تدوير للأفكار، إنعاش للأنفاس واكتشاف لأسرار الأماكن أيضاً. 

اختبأت شمس ذلك اليوم خلف غيوم متفرقة لطّفت حدّة أشعتها. صعدتُ الحافلة وبدأت أبحث عن مكان لي وسط الوجوه التي تشي بالفرح. رأيت ابتسامات تشرق هنا وهناك وقلت في نفسي: "لا شكّ في أن الرحلة ستكون ممتعة". وما أن جلست على مقعدي حتى تلقيت تحية من "كوتش" نسمة غزيري، المرأة المفعمة بالحيوية ودائمة الابتسام. فهي تحرص على سؤال كل المشاركين عن أحوالهم وعما إذا كانوا يشعرون بالارتياح. ومن موقعها كمدربة رياضية ومهتمة إلى حد كبير باللياقة البدنية، لا تشارك نسمة، الحاصلة على إجازة في إدارة الأعمال وعلى شهادة ماستر في الـFunctional Training من أستراليا، في رحلات "الهايكنغ" إلا بدافع الشغف والرغبة في الهروب من ضغط العمل اليومي. وعن هذا قالت لـList: "لاحظت أنني أمضي معظم وقتي داخل الجيم. لذا قررت الخروج"، مشددة على أن "الهايك" هو علاج للروح وطريقة للتخلص من التوتر، بل سفر وسط الطيور والأشجار على متن الهواء والماء، ولافتة إلى أنه من الخطأ عدم الاستفادة من مكونات الطبيعة. وإذ أشارت إلى الجالسين على مقاعد الباص، أوضحت أن هذا النشاط يناسب الأشخاص من الأعمار كافة وينطوي على إيجابيات كثيرة، وتابعت: "ليس على هؤلاء الالتزام بالمشاركة في كل رحلة يتم تنظيمها، علماً أننا نراعي في هذا السياق حياة الناس العائلية. لذا لا ننظم هايكنغ بشكل أسبوعي". وبالحديث عن المسارات قالت: "في كل مرة نحاول الانطلاق إلى وجهة جديدة لنتيح للمشاركين التعرف على نباتات جديدة، أحجار جديدة، مواقع جديدة،..."

انطلقنا من نقطة التقاء في بيروت تم تحديدها عبر "واتساب". وما أن أطلّت الروائع الطبيعية برأسها، حتى انسحبتُ من مشهد الحافلة ومنحتُ حواسي فرصة التحليق وسط المناظر الخضراء البديعة، أوركسترا الطيور والهواء السمفونية، تقاطع الوديان والجبال والسهول، قبائل النباتات التي تنمو بين الصخور، سكون البرك والبحيرات الصغيرة.

ولم يخرجني من غيبوبتي الجميلة سوى الكوتش جبريل برهم، الأردني المقيم في لبنان منذ العام 2017. تقدّم نحوي وسألته عن سبب حبّه الهايكنغ، فأجاب بأنّ الجسم والعقل والقلب والروح ترتبط بعناصر الطبيعة، لافتاً إلى أن العلاقة مع الطبيعة أمر مهم جداً. وأضاف المدرّب الحائز على بكالوريوس تربية رياضية بمرتبة الشرف من جامعة اليرموك في الأردن: "لا يعني "الهايكنغ" القيام بعدد كبير من الخطوات فحسب، بل هو أيضاً يعود بنا إلى أصولنا، فالطبيعة تشبه الإنسان ونحن ننتمي إلى الأرض. أنا أدرب ذوي الهمم من الأطفال على السباحة وما ألاحظه هو أن الطفل يشعر بالارتياح إذا اعتمد، أثناء وجوده في الماء، وضعية الجنين. إذاً العودة إلى الأصل هي ما نحتاج إليه".

يساعد المشي على الشعور بالارتياح على المستوى النفسي، هذا ما أكده برهم بالقول إن الهايكنغ يساهم في "تحريك" هرمونات السعادة والراحة في الجسم، فهو برأيه علاج لا بدّ من تجربته. وليس هذا فحسب، بل إنه، حسب قوله، وسيلة لإعادة استكشاف الأماكن بتفاصيلها الجديدة الدقيقة أيضاً.

وصلنا إلى وجهتنا، أي إلى اللقلوق حيث تعيّن علينا الترجل من الحافلة والانطلاق سيراً على الأقدام مع اتباع خطوات الكوتش سميرة متى، الخبيرة في مجال السير لمسافات طويلة منذ العام 2009. وقد أخبرتني أنها خضعت لدورات تدريبية شملت نواحي عدة مثل الطقس، الجيولوجيا، عالميّ النبات والحيوان، الإنقاذ الجبلي وغير ذلك. وانطلاقاً من خبرتها في هذا المجال، أكدت المدربة أن السير في أحضان الطبيعة يساعد على التصالح مع الذات، على استعادة السكينة الداخلية، بل أيضاً على إعادة اكتشاف البلد بعيداً عن الصور النمطية. وعن الوجهة المفضلة لديها قالت: "إهمج، قريتي. أحب السير في غابة العذر هناك".

منعاً للشعور بالتعب أثناء المشي لساعات طويلة، من الضروري أن يتم اتباع طريقة المشي الصحيحة. وفي هذه الحالة يجب أن يبقى الجسم مستقيماً وأن تكون الخطوات متناغمة.

تضمنت الرحلة مراحل عدة، وفي بعضها تأخر عدد من المشاركين عن اللحاق بركب الآخرين، وكان على الواصلين أولاً التوقف لانتظارهم لبعض الوقت. ومن هؤلاء الدكتورة علا ناصر الدين، المتخصصة في مجال العلاج الفيزيائي والباحثة في الإدارة الصحية في الجامعة اللبنانية. وقد استهلت حديثها بالإشارة إلى أنها تعمل على علاج التوتر عن طريق التنفس، لافتةً إلى أن هذه الطريقة مثبتة علمياً. وأردفت أنه يمكن المشي أن يساعد على ذلك أيضاً، من خلال تحسين عملية التنفس بشقها الإرادي. وتابعت أنه يمكن بعد هذا التحكم بالأفكار، بالخوف، بنوبات الهلع،... وشددت الطبيبة على أهمية تدريب الدماغ على عيش السعادة، موضحة  أنه يمكن التوصل إلى ذلك من خلال الرياضة. وأضافت، في هذا السياق، أنها تعاني من مشكلة في القلب وأنها تمكنت من المشاركة في 4 سباقات ماراتون في عام واحد. وقالت: "المستحيل أصبح ممكناً". كذلك رأت أن "الهايكنغ" هو من أفضل الطرق التي تؤمن التواصل مع الطبيعة.

بدورها لفتت خديجة ناصر الدين الأنظار بحيويتها، فهي تشارك في العديد من رحلات "الهايكنغ" سنوياً، علماً أنها أم لثلاثة أبناء يبلغ أصغرهم الـ26 عاماً. وقالت إنها تمارس الرياضة في النادي وإنها تحب الطبيعة وتنشق رائحة الأرض. وعلقت: "طبيعة لبنان رائعة وتستحق أن نعيشها"، معبرة عن عدم قدرتها على وصف ما تشعر به. وأضافت أن أبناءها يشجعونها إلى حد كبير وأنها تقوم بجولات في مواقع طبيعية مميزة برفقة ابنها المهندس الزراعي.       

يمكن الراغبين في القيام برحلات "هايكنغ" في لبنان اختيار إحدى وجهات كثيرة رائعة: جرود الضنية حيث تنتشر أشجار الأرز واللزاب والصنور والسنديان، حرش إهدن، غابة تنورين، الهرمل، الناقورة، راشيا الوادي، عكار، القبيات، القموعة، وادي قنوبين وأكثر.

أما الدكتور الصيدلاني فادي شرارة، الذي سبق المشاركين إلى كل محطات الرحلة، فعبر عن تعلّقه بالهايكنغ، مشيراً إلى أنه بات يحرص مؤخراً على المشاركة في الرحلات التي تُنظم في هذا السياق. وأوضح أنه لجأ إلى المشي كجزء من علاج ارتفاع مستوى الكوليسترول الضار لديه، لافتاً إلى أنه رفض تناول الدواء. وقال  الرجل الأربعيني إنه اعتاد ممارسة رياضة المشي السريع شبه اليومي منذ نحو 6 سنوات. وتابع أن الأمر كان في البدء صعباً وأنه أصبح لاحقاً أكثر سهولة وبات جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية. وبالحديث عن الهايكنغ، أضاف: "لا تقتصر فوائده على الصحة الجسدية، بل إنه يساعد أيضاً على التخلص من الضغط النفسي والتوتر، كما يتيح لنا الفرصة للتعرف إلى أشخاص جدد وعلى مناطق جديدة". وأشار إلى أن لكلّ منطقة خصائصها ومميزاتها وأنه أحب كل المناطق التي تمكن من زيارتها. لذا نصح الجميع بالانضمام إلى مجموعات الهايكنغ الذي يغذي الروح والنفس ويحسن المزاج حسب قوله.  

وليس بعيداً عن المشاركين والمدربين يتجول مجد الجيجاوي، المصور الفوتوغرافي الذي وثّق أجواء الرحلة بعينه كما بعدسة كاميرته، وواكب هؤلاء وأولئك منذ قيامهم بخطواتهم الأولى في اللقلوق وبعد وصولهم إلى موقع التجمع الأخير في منطقة بالوع بعتارة (بلعا) المذهل.